الجنة في الثقافات والمعتقدات- رحلة عبر الخلود والنعيم

المؤلف: أسامة يماني11.26.2025
الجنة في الثقافات والمعتقدات- رحلة عبر الخلود والنعيم

يشغل موضوع الجنة تفكير البشر على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وأجناسهم، إلا أن تصوراتهم عن ماهيتها تتباين تبعاً لتنوع الثقافات الإنسانية. لطالما طرحت المعتقدات والأديان والفلاسفة أسئلة جوهرية: هل الخلود هو الجنة المنشودة؟ أم أن اللذة الأبدية هي جوهرها؟ أم الجنة هي الروح الخالدة بذاتها؟ لقد تخيل قدماء المصريين الجنة على أنها "يارو"، وهي حقول الإله أوزوريس، سيد العالم الآخر، مكاناً ينعم فيه الأبرار بحياة أبدية سعيدة، تجري من تحتها الأنهار العذبة، وتترقرق فيها عيون الشراب اللذيذ، ويعيشون في كنف الآلهة. أما النار أو الجحيم، التي أطلقوا عليها اسم "سج"، فكانت مصيراً ينتظر الأشرار، عقاباً على ما ارتكبوه من موبقات وآثام. وفي القرآن الكريم، ورد لفظ "سجين" للإشارة إلى هذا المصير المشؤوم: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}. لقد أولى المصري القديم اهتماماً بالغاً بمصير الإنسان بعد الموت، كما يتضح من معتقداتهم الراسخة. فقد آمنوا بنظام دقيق للحساب والثواب والعقاب بعد الموت المحقق، فإما أن تحظى الروح بدخول "حقول آيارو"، وهي الجنة في العقيدة المصرية، أو تهوي إلى بحيرة النار والجحيم. وعند السومريين، بزغ مفهوم حديقة الآلهة أو الجنة الإلهية في سومر. ثم انتقل هذا التصور عن منزل الخالدين إلى البابليين، الذين حكموا بلاد سومر. وقد أفاض الدكتور مصطفى بو جناح في بحث قيم بعنوان "عالم الجنة والخلود في معتقدات بلاد الرافدين ومصر القديمة"، حيث ذكر ما يلي:

يمزج هذا البحث الرصين بين الأسطورة والتاريخ، وبين الواقع وعالم الغيب الخفي، وهو دراسة إبستيمولوجية متعمقة لمفهوم تبلور في الفكر الإنساني منذ اللحظة التي أدرك فيها الإنسان حقيقة فنائه وعدم قدرته على بلوغ الخلود الأبدي. لقد أبدعت المخيلة السومرية الخصبة في ابتكار مفاهيم وتصورات فريدة عن عالم الفردوس المفقود، واقتفى البابليون أثرهم، لكن بفكر أكثر تطوراً وحداثة. فكانت دلمون هي أرض الميعاد الأبدي والفردوس المفقود الذي تغنى به سكان الشرق القديم. وتبنى المصريون القدماء تصوراتهم الخاصة عن الجنة، واعتقدوا أن الصفوة المختارة ترتقي إلى السماء لتستقر في جزر متلألئة بين النجوم، حيث الفردوس الخالد والنعيم المقيم بصحبة الآلهة. وقد أتاح هذا البحث فرصة سانحة لمناقشة مختلف القضايا اللاهوتية والفلسفية التي تتصل بمفهوم الجنة في مدونات الشرق القديم، والكشف عن بعض الجوانب الغامضة التي تكتنف هذا المفهوم في بعده الأخروي.

أما الفلاسفة والمشّاءون، فقد تباينت آراؤهم ووجهات نظرهم، فمنهم من يرى أن "الجنة والنار والثواب والعقاب هي من جنس اللذات والآلام العقلية. فالنفوس البشرية، سواء كانت أزلية كما يرى أفلاطون، أو غير ذلك كما يرى أرسطو، فهي أبدية لا تفنى بفناء الجسد، بل تبقى ملتذة بكمالاتها، ومبتهجة بإدراكاتها، وتلك هي سعادتها وثوابها وجنانها على اختلاف مراتبها وتفاوت أحوالها. وتتألم بفقد الكمالات وفساد الاعتقادات، وتلك هي شقاوتها وعقابها ونيرانها على ما لها من تفاصيل مختلفة. وإنما لم تنتبه لذلك في هذا العالم، لانغماسها في تدبير الجسد واستغراقها في أكدار عالم الطبيعة، وبالجملة لما يحيط بها من العلائق والعوائق الزائلة بمفارقة الجسد".

والمسلم مطالب بالإيمان باليوم الآخر، يوم الحساب، كما يجب عليه الإيمان بالجنة والنار الجسمانيتين، كما ورد في الآيات المتضافرة والأخبار المتواترة. وإن كان البعض قد اختلف في الجسمانية، حيث قالوا "إن الجنة والنار وسائر ما ورد به الشرع من التفاصيل ليست من قبيل الأجسام والجسمانيات ولا من عالم المجردات، بل هو عالم آخر متوسط بينهما، كعالم الرؤيا في المنام، والصورة في المرآة. والثواب والعقاب كالرؤيا الحسنة والرؤيا القبيحة".

نحن كمسلمين نؤمن بالجنة والنار إيماناً راسخاً، غير أن بعض المتطرفين استغلوا مفهوم الجنة لأغراض وأهداف دنيوية دنيئة، فضللوا الشباب المغرر بهم، وعملوا على إزهاق أرواحهم البريئة بالتفجير والحروب والقتل، زاعمين أن ذلك هو الطريق الأوحد إلى الجنة. في حين أن أهم طريق إلى الجنة هو الإحسان والأخلاق الحميدة: "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ". وقال تعالى: "لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة